
للقاص: أزهر أحمد
رغم أنّه شهر آذار، وبداية ارتداء الطبيعة لثوبها الأخضر، ومداعبة حبّات الندى للبراعم وهي في طور الإزهار، وفي ركن آخر أزهارٌ تمرّدت سريعاً على برد الشتاء، تفتح صفحات بتلاتها لأشعة الشّمس الخجولة، وبألوانها المعتادة، الأخضر والأحمر والأصفر، وكأنّها فتيات كردٍ وهنّ يتمرّدنَ على أيّام الغدر، محتفلات بنوروز، وهن يسجُنَّ الدموعَ في المآقي وتكبتنَ الحزن في القلوب، تمارسنَ طقوس نوروز وفاءً للأجداد.
ورود تزيّنُ شرفات منازل تحرسها أشجار الزيتون، وهي تحاول النهوض رغم حزنها، هي الأخرى تدمع للحظات تكسير أغصانها وبعثرة زيتونها…اللصوص في كلّ مكان، تحاوِلُ الأشجار النهوضَ شغِفةً بقدوم الرّبيع، سئمت من شدّة وهيجان الأعاصير التي كانت قد بدأت تهبّ زوابع على عفرين منذ نهاية كانون الثاني، وهي ما زالت ترسلُ رسائل حزينة.
لعل زوابع وأعاصير الغدر تكبر وتقوى هذه المرّة مع أسراب الطائرات والحوّامات على سائر قرى ونواحي عفرين عامّة وجنديرس خاصّة. الأرض الخضراء تحترق، أشجار الزيتون لحظات تكسيرها تصرخ وتتناغم مع أصوات بُكاءِ النّسوة.. جنديرس تستنجد مع بدء حمم النار وألسنة الدّخان ورائحة البارود وشظايا آليّات الحرب التي تخيّم عليها، تصطدم مع هول مشاهد منازل البؤساء. حتّى من كان يحتمي في الملاجئ باتت دموعه تمتزج بدماء تنزف من أذنيه، من تبقّى في جنديرس حاول الخروج، ولكن هذه المرّة … الأوغاد يرمونهم ببراميل النابالم، فيعلو الصراخ وتتزايد أعداد جثث الشهداء على الأكفّ… أشلاء مبعثرة تحت الأنقاض … الكلّ يهرول من هول الجرائم، أمٌ تبحث عن طفلتها فلا تجد سوى الرأس تحضنها فتقبّلها، تبكي، تضحك، تركض مع الجميع، وتقول لطفلتها الشهيدة: “لقد أنقذتك يا بنيّتي، قوّات حماية الشعب تتنقّل في كلّ مكان… تسعى جاهدة لمساعدة ما تبقّى من المدنيين للخروج من جنديرس التي بقيت صامدة لمدّة 36 يوماً، واليوم تُعلِنُ النفير وتريد من أولادها الخروج، فالأوغاد في كلّ مكان وآلة الحرب أشدّ ظلماً وفتكاً.. هذه المرّة كلّ شيءٍ مباحٌ.
لعلّ خبات ووالده ووالدته وأسرته (أسرة أبو خبات) المؤلّفة من زوجته كليستان وأولاده بريتان، رودي، رودين، دجلة، وآفيستا، من أكثر الأسر التي صمدت في جنديرس، وعدت بالبقاء حتّى الشّهادة أو النصر. لكن هذه المرّة، أسراب الحوّامات والطائرات الحربيّة والبراميل المتفجّرة وروائح الغازات تنتشرُ في كلّ مكان، ما أجبر وحدات حماية الشعب إلزام ما تبقّى من السكّان للخروج والسير باتّجاه جبل الأحلام، الكلّ يريد أن ينجوَ بنفسه، أصوات زمامير السيّارات المتصادمة تمتزج وبكاء النسوة. وحدات حماية الشعب تساعدهم، ولكن لدى وصول أبي خباتٍ وأسرته إلى قمّة جبل الأحلام وهم ينظرون إلى الخلف، فإذ بأبي خبات يقول: انظروا هناك عجوز لا تستطيع المشي إنّها تزحف، سأذهب وأساعدها، فأسرع إليها وحملها على ظهره. صوت بكاء طفلٍ يرتفع وكأنّه يستنجد، فسرعان ما عاد خبات إليه ليحمله على كتفه بعد أن مسح دموعه وهو يقبّله ويركض به إلى قمّة الجبل ليضمّه إلى أسرته.
تقول أمُّ خبات: انظروا…!!.. هناك من تدفن ابنتها بثيابها وكأنّ دموعها تسابق حركة يديها وهي تلقي على جسد طفلتها التراب في خندق مجاور للطريق. أصوات الطائرات والبراميل المتفجّرة والصّواريخ تجبرُ الكلّ أن يضع يده على أذنه وهو يُسرع باتّجاه قمّة جبل الأحلام، الكلّ مرتبك والكلّ يحاول إنقاذ نفسه وأسرته.
وأخيراً وبعد رحلة صعبة وطويلة وسقوط عفرين في يد الغزاة وزبانيتهم، وصلت عائلة أبي خبات إلى مخيّم سردم…
ولكن هذه العائلة المناضلة لم ترضَ البقاء في المخيّم مكتوفة الأيدي، فإذ بخبات ينظر إلى خيمته ويقول: “لا شيء يتغيّر في هذه الخيمة الكئيبة، وكأنّ خيطانها مشانقَ غزلها الغزاة … كلّ شيء بدون روح… الجميع شاردون… ولا صدى سوى كلمات أصبحت أكرهها “أرزاق … معونات… مساعدات … منظّمات … شعارات … أرقام للخيّم …”.
لجانٌ تتقمّص صفات الآلهة… وكلماتٌ رنّانة … الجميع أصبح يوحي بأنّه المنقذ بنظّارته السوداء ولحيته الشقراء التي شذّبها وصدريّته الملوّنة والمدوّنة عليها عبارات تدلّ على شعاراتٍ برّاقة. يا لها من متناقضاتٍ! نعم متناقضات! لماذا تحتلّون بيتي وتُهدوني خيمةً صمّاء جرداء لا تعرفُ المشاعر؟ حتّى التلفاز هذا اليوم يزعجني… كم كرهتك أيّها التلفاز ونحن نراك ونسمعك وأنت تُهدينا خبر انتقال الجنود الأتراك وبرفقتهم الملتحون بثيابهم القصيرة ورائحتهم النتنة وقذارة أفكارهم وكلماتهم، وهم يَنزِلون من الباصات الخضراء ويدخلون بلدتي…؟؟
عندما تمعّنتُ في الصّورة أكثر، فإذ بالأوغاد يتوسّدون مِخدّةً صنعتها والدتي ويصلّون على سجّادة غزلتها جدّتي من صوف أغنامنا التي كان يرعاها والدي، ويكسِرون أغصانَ زيتونٍ سقيتها بيديّ، انتابتني رجفةٌ…!! نعم.. كلّ شيءٍ في جسدي يرتجفُ.. ازداد غضبي … ثورتي … ألمي … عندما سمعت كلام جنودٍ أتراك وقهقهات الملتحين وكلمات “الله أكبر”… أصوات حبّات المسابح أصبحت أصوات مدافع تدوّي في أذنيّ، وضحكات الغزاة وهم يدنّسون بئراً حفره والدي ونقلتُ ترابه أنا؛ لأفرِشَها بجانب غصن زيتونة ترنو إلى السّماء، زجاجات نبيذهم تفضح حقيقة مسابحهم… يكسرون أغصان الزيتونة المباركة؛ ويَتلونَ “التّين والزيتون وطور السنين وهذا البلد الأمين”، تلك الآية التي كنت أسمعها من جدّي لحظات قراءته القرآن. نعم ينافقون، يتصنّعون العبادة ويتراؤون، يريدون الله من فوق مسجد اغتصبوه، ويريدون الله في شجرة كسروها، يريدون الله في أغراضٍ سلَبوها، ويتوضؤون بماء بئر دنّسوه بقذارة زجاجاتهم النتنة…
تلك المناظر وألسنة الدّخان زادت من غضبي وثورتي وعنفواني … فإذ بصوت ابنتي بيريتان تقول: دم ….دم ….دم ….وهي تقصد صدري فتقبّلني ويسيل دمعها على خدّي لتعلن انفجار بركانَ دموعي فتختلط بدموعها… وفيما أنا غارقّ في احتضانها وتقبيلها، لأخفّفَ عنها وتخفّفَ عنّي، فإذ بقطرات دماء تلوّن وجهها البريء، فعلمت أنّني قسيت على قلمي الذي انتقمَ منّي لحظة الانكسار مدافعاً عن نفسه … فقلت لها: لا تخافي يا صغيرتي… انظري حتّى الجماد يثأرُ لقاتلهِ …نعم كلّ شيء يدافعُ عن نفسه.
ذاك هو بيتنا.. شرّدنا منه الغزاة ودنّسه الملتحون. وتلك الزيتونة زرعها جدّي، ومحراث والدي يستنجد لحظة رميه برصاصهم الغادر، الكلّ يستمع والأعين مغرورقة بالدّموع وهي ترنو إلى تلك المشاهد… الكلّ يريدُ الانتقام …
كم كانت قاسيةٌ تلك اللحظات وخبات ينظر إلى الأشرار وهم يسرقون ويعبثون بمقتنيات وأثاث منزلهم وأملاكهم، وخبات وعائلته هنا في خيمة كئيبة… قام خبات وقال مجدّداً: أبي، أمّي، زوجتي العزيزة كليستان أولادي رودي، رودين، بريتان، دجلة، آفيستا، لم أعد احتمل البقاء في هذه الخيمة الحزينة؛ سأنضمّ إلى وحدات حماية الشعب وأقاوم للعودة إلى عفرين.
فقال أبا خبات: لابدّ أن ألتحقَ أنا الآخر، قالها وهو يثني على ولده ويشدّ على يده.
قال: خبات والدي لقد نالت السنون من عمرك ما نالت وإشارات التعب بادرةٌ على وجهِك، أرجوك أن تبقى هنا إلى جانب أسرتنا…!!
ردّ أبا خبات وقد بدا منزعجاً: أنا لست أقل مروءة منك يا بني، أريد أن أُشفيَ غليلي من دم أعدائي… خذني معك أرجوكَ يا ولدي…!!
وبارتفاع صوت نقاشهم وبكاء النسوة، فإذا برودي البالغ من العمر ثلاثة عشرة عاماً يقول: وما فائدتي وأنا شابٌ في مقتبل العمر إذا لم أنتقمْ لأرضي وعرضي وأعيدَ منزلي وبلدي وأرجع تحت زيتونتي…؟؟
رودين البالغة من العمر سبعة عشرة عاما تصرخ وتقول: سأقتل نفسي إن لم أحملَ السّلاح معكم، فأنا أيضاً غيورةٌ على بلدي وأرغب بالقتال ضمن صفوف وحدات حماية المرأة…!!
عقّبت أمّ خبات على أحاديث العائلة: إنّها لحظات صعبة، وأنتم تقرّرون الانضمام إلى وحدات حماية الشعب، والله إنّها لحظاتٌ صعبة، فأنا سأفتقدكم، ولدي، زوجي، حفيدي وحفيدتي، مهما كانت دموعي سخيّة؛ لكن اذهبوا من أجل جنديرس وعفرين واستعيدوا أرضنا، فهي كرامتنا فلا شيء بدون ثمن، لكن أتمنّى أن تأخذونا إلى أيّ مكان، كوباني، الجزيرة، إلى أيّ مكان يُبعدنا عن هذه الخيمة الكئيبة ويكون هناك من يشعرُ بجرحنا.
حمل الجميع بعض ما تبقّى من أمتعتهم وساروا باتّجاه كوباني، لتسكن الأسرة في إحدى قرى كوباني عند قريبٍ لهم، وليلتحق الأربعة، الجدّ والأبّ والحفيد والحفيدة بصفوف وحدات حماية الشعب، فالكلّ مصرٌّ على الانتقام والعودة إلى عفرين.
بعد مرور ثلاثة أشهر، وإذ برودي يتّصل مع والدته كليستان، ويسمعها أمّي لقد بدأنا نثأر لكم يا أمّي، لقد بدأنا نثأر لكم… نحن هنا جميعاً، إلى جانبي أبي وجدّي وشقيقتي. لقد بدأنا ننتقم منهم، لترتاحوا وتطمئِنوا أخوتي، كان رودي يكلّمهم وبيده بندقيّته وبيده الأخرى غصن زيتون حملها من بيته لحظات الانتقام ليريها لأخوته.
قال لها رودي وفي نبرته لهجة التحدّي والعنفوان: “فو الله لسوف يكون صوت أزيز رصاصنا أصدق من نتانة مؤتمراتهم ومؤامراتهم وقذارة أفكارهم وخُبثِ نواياهم، فأجراس الكنائس ستتخلّص من صمتها في عفرين وأصوات المساجد ستتحرّر من قُبحِ سياساتهم في عفرين، والسماء ستدمع من أجل شهداء عفرين وهم يخلِدون تحت شجر الزيتون، وسأبقى مصرّاً على المقاومة بروح مقاومة مظلوم دوغان، وأتمنّى أن تبقى صفحات كتاب المقاومة حياة مفتوحة، فهي تزيدنا عزماً وقوّةً أينما كنّا. فلا تبكوا يا أخوتي…
وبعد يوم واحد , عاود خبات الاتصال مع والدته قائلا:
والدتي… أزفّ لك خبر شهادة شقيقتي رودين، وأنقل لكم وصيّتها والتي حملتني قبل شهادتها وطلبت منّي عهداً أن أقسم لكم بالعودة إلى بيتنا… إلى جنديرس … إلى عفرين. وإنّي عاهدتها وأعاهدكم بأنّنا سنشرب من ماء عفرين وسنأكل من زيتون عفرين وسنملأ أسواق روج آفا والشّمال السّوريّ بزيت الزيتون…
وأنا أغمِض عينيها وهي تودّعني إلى عالم الخلود، أكرّر لها قسمي.. نحن عائدون إلى عفرين … عائدون إلى عفرين، فعفرين في دمي، عفرين في دمي.
الكاتب والقاص:
أزهر داود أحمد بن داود تولّد جولباصان 1970 – أهليّة التعليم اتّحاد مثقّفي الحسكة – 0933683814 -0934563117
